الأعداد السابقة

ثقب في حياتها

نجلاء قايد عمر الوصابي

السبت..6 نوفمبر 2021:


تستيقظ أسماء مبكرة، بعد أداء الصلاة تفكر: يجب أن توقظ زوجها وابنها الصغير، لكنها لا تجد الوقت الكافي لعمل الخبز من الطحين المتبقي من أجل الإفطار، لا يجب أن تتأخر، قررت تركهما نائمين، تستعد للذهاب إلى المدرسة حيث تواصل عملها منذ أكثر من خمسة عشر عاما، لا تملك في حقيبتها غير (400)ريال، بالكاد تكفي كأجرة مواصلات للذهاب إلى المدرسة والعودة منها.


تصل أسماء إلى المدرسة بعد انتهاء الطابور بخمس دقائق، تأخرت عن حصتها الأولى في الصف السادس، تحاول التسلل إلى الصف، ربما تنجح اليوم في تفادي توبيخ مديرة المدرسة، تجد مهرجانا كاملا من الفوضى والمشاغبات والقتال يصنعه طلاب الصف السادس مستغلين تأخرها، تحاول ضبط الصف بسرعة، لكن المديرة تقف الآن على باب الصف، اكتفت هذه بنظرة غاضبة ومضت، لا بأس هذه المرة، لقد نجت.


في هذا اليوم لا يوجد في جدول أسماء حصة ثالثة، لكن مشرفة الدور تطلب منها تغطية الحصة في الصف الثامن لغياب مدرس اللغة العربية، تثور أسماء وتطلب وقتا للراحة وتناول الإفطار، تتساءل بغضب عن سبب اضطرارها لتحمل تغطية غياب زملائها المعلمين الذكور المتواصل، تتلقى الإجابة المعتادة، فتنهض باستسلام وتذهب للصف الثامن.


تمام الساعة العاشرة تنطلق لتحصل على وجبة الإفطار التي يوفرها فاعل خير للمدرسين والمدرسات. تحس بالحرج وهي تنظر إلى الطلاب يتزاحمون أمام مكتب الأخصائية للحصول على "ساندويتش بالجبن" يوفره- أيضا- فاعل خير آخر للطلاب المحتاجين. هذا وضع لا يحتمل، لكنهم جميعا يحتملونه منذ أكثر من خمس سنوات، منذ أن توقف صرف المرتبات في جميع الدوائر الحكومية، تشعر أحيانا أنهم لا يعيشون حقا، إنهم يستمرون فقط في فعل الأشياء التي يفعلها الناس الأحياء بفعل القصور الذاتي. ثقب أسود كبير يبتلع كل المشاعر.


عند انتهاء اليوم الدراسي، تعود أسماء إلى البيت مسرعة، لقد سحبت مبلغ ألف ريال من المسئولة المالية في المدرسة، سيخصم من نصيبها من المشاركة المجتمعية التي فرضت على الطلاب شهريا(ألف ريال من كل طالب) ليحصل عليها المدرسون كأجور مواصلات. ربما يعتقد المسئولون أن المعلم لا يحتاج لأكثر من أجرة الذهاب إلى المدرسة والعودة منها ليستمر في "الصمود".


لم يعمل زوجها منذ أيام بسبب أزمة الغاز الأخيرة. ما أكثر الأزمات في هذا البلد المنسي حد الموت!،لا تكاد تنتهي أزمة، ويتنفس الناس الصعداء، حتى تبدأ أزمة أخرى. أحاطت الحرب بهم في دائرة عظيمة، واحتوت داخلها دوائر عديدة من الأزمات والمصائب، تقاطعت الدوائر كأنها أشكال "ڤن"،هذا تدريب عظيم لمن أراد أن يدرس الرياضيات من الواقع. 


في طريقها تشتري الغداء(الخبز والزبادي والطماطم)،وحفاظات صغيرها، لقد انتهت الألف ريال بنفس السرعة التي حصلت عليها.


 


الأحد..7 نوفمبر 2021:


تستيقظ أسماء لتجد أن زوجها قد سبقها، تستعد للذهاب إلى المدرسة، يقف زوجها على باب الغرفة، يطلب منها التغيب اليوم عن المدرسة لتظل مع ابنهما، يجب أن يذهب إلى العمل اليوم، بعد أن استطاع تدبير "دبة غاز" من أحد أصدقائه، لقد تأخر في تسديد إيجار البيت، يجب أن يجمع الإيجار من عمله على باص يعمل بالغاز، استأجره من رجل ترك البلد ليغترب خارجها، يتكلم زوجها بينما تسرح بخيالها: فقط لو استطاعت أن تخرج من هذه البلدة الظالم أهلها، ستستطيع علاج ابنها، وستجري عملية القلب المفتوح ل"كبدها التي تمشي على الأرض" على يد أمهر الجراحين، سينغلق الثقبان في قلبه الصغير، ستلحقه بأفضل المراكز التأهيلية، وربما استطاع صغيرها أن يناديها "ماما"، الكلمة السحرية التي تتمنى سماعها منذ أكثر من سبعة أعوام.


تعود أسماء إلى واقعها على وقع صوت زوجها:(لم البكاء؟ لا تستطيعين الغياب ليوم واحد؟!تعملين بدون راتب منذ سنوات، حتى العبيد كانوا يعملون نظير السكن والأكل والشرب..) تشعر بالدمعتين التين شقتا طريقيهما عبر خديها الشاحبين، تمسح خديها وتقول:(سآخذه معي، يجب أن أداوم اليوم، سآخذ إذنا ليوم غد، يجب أن نجري له "إيكو" للقلب(.يرد زوجها: (لن نأخذه للمستشفى غدا، علي أن أجمع الإيجار أولا(


تتمتم أسماء شيئا لا يتبينه  زوجها، يسبقها إلى الباص، بينما تجهز ابنها لتأخذه معها، تفكر:(على الأقل سيوصلني للمدرسة اليوم بالباص...لحظة...هل ذكر شيئا عن العبيد قبل قليل؟!...هذا غريب.. بالأمس فقط قرأت مقولة لعباس العقاد تقول: الوظيفة رِقُّ القرن العشرين.(.


تبتسم أسماء وهي تتخيل ما كان سيقوله عباس العقاد لو عاش ليرى مئات الآلاف من الموظفين يواصلون دوامهم في وظائفهم أكثر من ست سنوات بدون رواتب، إلا أنصاف راتب تلقى إليهم كل بضعة أشهر. تحولت ابتسامتها إلى ضحكة مكلومة، جذبت ضحكتها نظر صغيرها إليها، فشاركها الضحك، في الحال تحولت ضحكتها إلى ابتسامة حانية وهي تداعب أنف صغيرها بأنفها، حقا تحب ضحكته الخجولة. وانتبهت إلى أصابع يديه وقدميه التي ازرقّت أطرافها قليلا، يجب ألا يتأخر عن إجراء الإيكو.


وصلت أسماء إلى المدرسة، تقف أمام الطلاب في طابور الصباح، الجو قارس البرودة، لقد اشتد الشتاء مبكرا، تحاول أن تدخل إلى المبنى لحماية ابنها من البرد، لكنه يرفض الدخول بشدة، يرى الطلاب يؤدون التمارين الصباحية فيقلدهم بحماس شديد بحركات غير متقنة فيضحك ويضحكون معه.


تعرف أنها لن تستطيع أن تفعل الكثير اليوم بوجود ابنها، في الحصة الأولى كتبت تمرينا على السبورة وطلبت من الطلاب حله، وظلت تلاحق ابنها وهو يجري ويلعب، يضرب طالبا، ويقرص آخر، يأخذ قلم أحدهم ويرميه، ويشد كوفية أحد آخر عنوة ويلبسها. من المستحيل أن ينشغل الطلاب بحل التمرين في وجوده. لا تستطيع أن تفعل شيئا بخصوص ذلك، تفكر:(ليت اليوم ينتهي بسرعة)،لم تجلس لحظة واحدة طوال اليوم وهي تلاحق ابنها، يملك ابنها مهارة الاختفاء من أمامها في جزء من الثانية، تتذكر أنه في أحد الأيام خرج من المدرسة دون أن تشعر، حيث كانت مشغولة بالحديث مع المديرة في أمرٍ ما، واتجه بموهبته الفطرية في حفظ الطرقات إلى طريق العودة للمنزل، لو لم يجده أحد طلابها ويعده إليها قبل أن تكتشف غيابه، لطار صوابها شعاعا، منذ ذلك اليوم تفرض عليه حراسة مشددة كلما كانت معه خارج البيت، تحرسه عيناها التي تلاحقه في كل حركة، وقلبها الذي دربته على ألا يغفل عنه لحظه، ويدها التي لا تفلت يده إلا إذا أغلقت بابا عليهما.


يجب أن ينتهي هذا اليوم بسرعة.


 


الإثنين..8 نوفمبر 2021:


لن تذهب أسماء إلى المدرسة اليوم، أقنعت زوجها الليلة الماضية بضرورة إجراء الإيكو لصغيرهما. بعد ازرقاق أطراف أصابعه صباح الأمس.


فتحت عينيها، وبقيت على الفراش تنعم بالدفء قليلا، يمكنها اليوم أن تتأخر في النهوض، لكن سيل الذكريات والأفكار يتدفق بلا توقف.


يبلغ صغيرها من العمر سبعة أعوام، لكن من يراه يظن أنه في الخامسة. هو وحيدها، وحيد قلبها وعقلها وحياتها، حسب كلام الطبيبة؛ من المستحيل تقريبا أن تنجب طفلا آخر بطريقة طبيعية. نصحتها الطبيبة ب "أطفال الأنابيب" كآخر أمل لها، قالت لها:(سيتطلب الأمر أكثر من مليون ريال)ضحكت أسماء وقتها، لم تستطع منع ضحكتها الساخرة المنطلقة من أعماق خيبتها، كان قد مضى على توقف صرف المرتبات أكثر من ثلاثة  أعوام.


حين ولد طفلها بعملية قيصرية، أُخذ منها فورا، لم تستطع أن تكحل عينيها برؤيته إلا في اليوم التالي، من خلف زجاج الحضانة، لم يُسمح لها حتى بتجاوز الحاجز بينهما، كان يحتاج إلى البقاء في الحضانة لأنه كان يجد صعوبة في التنفس. شعرت أنها ترى أجمل ما في الوجود، لحظة توقف الكون عندها، لطالما حاولت تخيل وجه جنينها، لكنها قط لم تستطع الوصول بخيالها إلى هذا الجمال.


في نفس اليوم انتقل وليدها إلى مستشفى آخر، وخرجت أسماء من المستشفى خاوية اليدين والأحشاء، تضم يديها إلى صدرها فتشعر بثقب كبير، وتتحسس بطنها الفارغ فتشعر بفجوة ملأتها بدموعها.


أخفى عنها زوجها وكل من حولها أمر ولدها، رأفة بها، حاول زوجها تجهيزها لتقبل الأمر، تلقى هو الصدمة الأكبر عنها، كصدام السيارات، ومهد لها الأمر خلال خمسة أيام، كانت خلالها تعيش خارج الزمان والمكان.


حين أحضر وليدها في اليوم الخامس، حين ضمته لصدرها لأول مرة، أرادت أن تغلق الثقب في صدرها، لكن الثقب اتسع في الحال، حتى احتوى وجودها كاملا.


عيناه الضيقتان الصغيرتان المائلتان إلى الأعلى في الزاويتين  الخارجيتين، كانتا إعلانا صريحا: حلمها الصغير من أطفال متلازمة داون، لم تستطع الاستيعاب، ربما تخونها عيناها، باكيةً مصدومةً سألت زوجها مرارا:(هل هو داون؟)لكنه كان يستقبل سؤالها بصمت بائس يجيب عن سؤالها بدون حروف.


تنهض أسماء من فراشها، محاولة إيقاف سيل الذكريات، وتبدأ في تجهيز الفطور، لكن السيل يعبر السد..


عرفت أنهم أجروا له العديد من الفحوصات خلال خمسة الأيام التي قضاها في المستشفى، يُقال إن كلمة "متلازمة" تعني أعراضا عديدة تتلازم معا في أغلب الحالات أو بعضها على الأقل، كان طفلها محظوظا، أو أنها هي المحظوظة، لم يحمل الكثير من تلك الأعراض الجسدية، غير ثقبين في قلبه، ونقص في إفراز هرمونات الغدة الدرقية وهذان معا - كما فهمت - أديا إلى بطء في نموه الجسدي، بالإضافة إلى التأخر العقلي المعروف في حالته.، وبدأت رحلته مع الأدوية منذ لحظة ولادته. كما أخبرها الطبيب بعد ذلك أنه يحتاج إلى عملية قلب مفتوح تكلف أكثر من مليون ريال أيضا، لم كل شيء مهم في حياتها يحتاج إلى هذا العدد من الأصفار؟


تفكر:(يا إلهي، يجب أن أتوقف)،يوشك السيل أن يجرف سلامها النفسي الهش الذي بنته على أنقاض نفسها القديمة.


توقظ زوجها وابنها، تضع نفسها في حالة "تحدُّث" متواصلة. حتى عندما كان الطبيب يجري الإيكو لصغيرها، شغلت نفسها بالتحدث مع طفلها.


يقول الطبيب ما يقوله دائما:(موضوع العملية متروك لكم، لا أحد يدري متى سيبدأ الثقبان بالتأثير عليه بشدة، لكن إجراء العملية الآن أفضل من إجرائها في حالة أن تظهر الأعراض الأشد).تسأله سؤالا تعرف إجابته:(لكن هل تضمن لنا أن لا تحدث أي مضاعفات خلال العملية، تزيد حالته سوءا؟(


وكالعادة يجيبها نفس الجواب:(أحد الثقبين يقع بجوار مركز كهرباء القلب، هناك احتمال 30% أن يتأثر هذا المكان الحساس، هذا الاحتمال لا علاقة له بالمستشفى أو الجرَّاح، هو احتمال عالمي، فإذا حدث ذلك سيحتاج إلى تركيب بطارية تساعد القلب بقية حياته.)


يريحها أنها لا تملك ترف الاختيار، ربما لو استطاعت توفير المبلغ سداسي الأصفار لواجهت أزمة حقيقية في مواجهة الاختيار.


يكتب الطبيب الأدوية المعتادة، والتي لا يأخذها طفلها منذ عامين تقريبا.


عليها الآن أن تستعد للمعركة المسائية، سيقول زوجها إنه لم يكن هناك من داعٍ للذهاب إلى الطبيب اليوم، كل شيء يتكرر بنفس الطريقة، وحتى بنفس الكلمات، منذ سنوات، إنه لا يعرف أنها فقط تحاول سد الثقب في صدرها.


الثلاثاء..9 نوفمبر 2021:


تصل أسماء إلى المدرسة متأخرة، لقد صحا صغيرها خلال الليل محموما بشدة، واسودَّت شفتاه ويداه وقدماه، واضطرت إلى السهر بجانبه إلى ما بعد الفجر، تركته في المنزل مع والده بعد أن هدأت الحمَّى بتأثير الشراب. قررت أن تستأذن من زملائها وزميلاتها، وأن تأخذ الحصص الأولى قبل أن تعود إلى البيت، لا تريد التأخر في المنهج أكثر، امتحانات نهاية الفصل الدراسي الأول على الأبواب، أمر غريب أن يظل ضميرها وضمير زملائها في المهنة حيا بعد هذه السنوات من العمل بدون راتب، تشعر أنها تدور في ساقية مغمضة العينين، دائما نفس الدائرة، متى تستطيع أن تأخذ خطوة تغير مجرى دورانها؟


يرفض مدرس اللغة العربية أن يبدل حصته بحصتها كي تخرج مبكرا، يقول إنه لا يمكنه التأخر عن عمله الآخر الذي يستلم راتبه شهريا، يقول زملاؤهن الذكور مبررين غيابهم المتواصل، وخروجهم بعد الراحة دائما لأعمال أخرى:(النساء أكثر حظا، لسن مسئولات عن الإنفاق على بيوتهن كالرجال، لذلك يمكنهن الدوام طوال اليوم وعدم الغياب رغم عدم صرف المرتبات).تضحك أسماء بشدة كلما سمعت هذا التبرير، تتمنى لو كان هذا صحيحا، لكنها لا تملك إلا الاستسلام لهذا التبرير، اليوم هي بحاجة إلى تفهمهم، يجب أن تخرج مبكرا ،لكنه يظل مصرا على الرفض، فجأة تشع عيناها، تصل إلى الحد الفاصل، تنطلق مباشرة إلى مكتب المديرة وتطلب بقية نصيبها من المشاركة الاجتماعية، ترفض المديرة اول الأمر، تقول إنهم لم يجمعوا المبلغ كاملا حتى الآن، لكنها كانت مصممة، مندفعة، قاهرة، ربما لأول مرة، لن تقبل الرفض ردا على طلبها، استسلمت مديرتها ووجهت المسئولة المالية بإعطائها خمسة آلاف ريال. هذا نصر صغير، يشعرها بالرضا عن نفسها قليلا، يشعرها أنها تقاوم، مواقف صغيرة تعتبرها بطولات حققتها، قد يراها الآخرون مواقف عادية، لكن قلبها يرى ما لا يراه الآخرون.


حين فرضت المشاركة الاجتماعية على الطلاب، القادرين منهم على الأقل، رفضتها كما رفضها أغلب المدرسين والمدرسيات، هذا عبء جديد يثقل كاهل الطالب، المغلوب على أمره كمعلمه تماما، لكن استمرار الوضع بدون أي بوادر لصرف المرتبات أجبر الجميع على القبول بها كأمر واقع.


وهذه بدورها أنشأت ظلما جديدا ربما لم يحسب حسابه أحد، دائرة جديدة انضمت إلى دوائر الأزمات المتقاطعة .ففي المدارس الكبيرة، ذات الأعداد الكبيرة من الطلاب، يحصل كل معلم على مبلغ يصل إلى خمسة عشر ألف ريال شهريا، وربما أكثر، أما في المدارس الصغيرة جدا - كمدرستها - ذات الأعداد الصغيرة جدا من الطلاب، وحيث تجد أن ثلث الطلاب على الأقل، غير قادر على دفع المشاركة الشهرية، فيحصل كل مدرس على مبلغ لا يتجاوز الخمسة آلاف ريال شهريا، هذا ظلم عظيم، لكنها تعرف ألا فائدة من الاحتجاج.


تعود مسرعة إلى المنزل، لتجد طفلها محموما بشدة، تضمه إلى صدرها، وتعطي زوجها - الغاضب من إصرارها على الذهاب إلى المدرسة- المبلغ كاملا، وتطلب منه شراء الدواء الذي يحتاجه هذا الصغير.


تنظر إلى صغيرها الذي يبدو سعيدا بعودتها، لم يتعلم الكلام بعد، لكنه يرفع كفيه ويحتضن خديها، ينطق كلمة بشكل متكرر، ورغم أنها تمتلك قاموسا لكلماته القليلة التي ينطقها بطريقته الخاصة، إلا أنها لم تفهم ما يريد قوله هذه المرة، تردد وراءه الكلمة بنفس طريقته، فيهدأ بالا، وتضمه إلى صدرها أكثر، ويتسع الثقب أكثر.


الأربعاء..10 نوفمبر 2021:


يجب أن يذهب صغيرها اليوم إلى المركز التأهيلي، ألحقته قبل ثلاثة أعوام بهذا المركز للتدخل المبكر، حيث يجب أن يحصل على تأهيل دراسي ونطقي ووظيفي.


اليوم تكتفي أسماء بإرسال رسالة للمديرة، تعتذر فيها عن عدم الحضور. ستذهب اليوم مع صغيرها لمركزه، تعيش أسماء هنا صراعا داخليا دائما، بسبب ارتفاع كلفة الذهاب به إلى مركزه البعيد نسبيا، عليها أن تختار  بين أن تذهب لمدرستها، وأن تذهب به إلى مركزه، وفي الغالب هي تختار أن تذهب لمدرستها، نتيجة لذلك يتغيب ابنها كثيرا عن مركزه، وكنتيجة أيضا، لا يكتسب المهارات التي يجب أن يتعلمها في المركز.


لا تعرف أسماء بالتحديد ما يجب أن تفعله، لو كانت تستلم مرتبها، لاستطاع ابنها الانتظام في مركزه، وبسبب هذا الموضوع لا تتفق مع زوجها أبدا، هو أيضا لا يفهم السبب الذي يدفعها للتمسك بوظيفتها التي لا تعود عليها بفائدة، بل وتحرم ابنهما من الانتظام في مركزه التأهيلي.


ربما هي تختار انتظار الضوء في آخر النفق، لكن أيام صغيرهما تمضي، في حين لا يتقدم في اكتساب المهارات الحياتية إلا ببطء شديد. مفارقة مضحكة هي؛ أن تلتزم - بضمير يقظ - بتعليم أبناء الآخرين، في الوقت الذي لا تستطيع فيه أن تلتزم بنفس القدر بتعليم ابنها، تتمنى لو لم يكن طفلها من أطفال متلازمة داون، سيتعلم حينها في مدرستها، ستنغلق إحدى الدوائر المتقاطعة حينها أيضا.


عندما تصل أسماء إلى المركز، يكون أول ما يستقبلها عادة، تأنيب معلمة طفلها، على غيابه المتواصل. يعرفون هناك سبب غيابه، ويتعاطفون معها، لكنها لا بد أن تتلقى الوعيد المستمر: إذا استمر غيابه سيتم فصله من المركز.


تدخله إلى الغرفة الخاصة بأطفال الداون، وتصعد إلى الأعلى، حيث الغرفة الخاصة بالأمهات، هذه فسحة تلتقطها من الزمن، تدور أحاديث الأمهات كلها عن أولادهن وحياتهن. تنسى لبعض الوقت نفسها. وتلتقط هاتفها المحمول، تغمس نفسها في ألعابه الخفيفة، ألعاب لا تحتاج إلى التفكير واتخاذ القرارات، في حياتها ما يكفي من ذلك.


الخميس..11 نوفمبر 2021:


أخيرا، الإجازة الأسبوعية، تستيقظ أسماء متأخرة، تلتقط هاتفها، وتشاهد تاريخ اليوم:11 نوفمبر، لم يدفعا إيجار البيت حتى اليوم، تعرف أن زوجها قد خرج للعمل، لا يملك زوجها ترف الإجازة الأسبوعية ،لكنه يتعطل عن العمل أياما كثيرة إذا احتوته إحدى دوائر الأزمات المتتالية داخلها.


طفلها ما يزال نائما، ستحظى ببعض الوقت مع نفسها، تعد لنفسها قهوة الصباح بالهيل، هذا مشروب له رائحة السعادة، لكنها ما إن تبدأ في شرب قهوتها حتى يدق باب البيت، تتساءل عن الطارق، فيأتيها صوت مالك البيت يسأل عن زوجها، يدق قلبها وهي تخبره أنه غير موجود، توقعت التالي، يأتي صوته غاضبا: أخبريه أن يسلم الإيجار، أو يخلي المنزل.


تعود إلى قهوتها منكسرة النفس، لقد بردت قهوتها، مثل كل شيء آخر في حياتها.


حاولت أسماء خلال السنوات الماضية، بعد توقف صرف المرتبات، أن تشعل شمعة بدل أن تلعن الظلام، لكن كل شمعة حاولت إشعالها انطفأت، تعرف أنها يجب أن تركز على الضوء حتى في أحلك لحظات حياتها، لكنها كلما سارت باتجاه الضوء، يبتعد عنها بنفس القدر. لكم تضاءلت طموحاتها منذ ست سنوات.


قرأت ذات يوم عبارة تقول:(في حياة كل منا لحظة لا تعود الحياة بعدها أبدا كما كانت قبلها).تتساءل عن لحظتها، هل كانت ولادة طفلها هي تلك اللحظة؟،أم كانت تتمثل في توقف صرف المرتبات؟ أم أن لحظتها كانت أبعد من ذلك، ربما لحظة التحاقها بكلية التربية واختيارها لمهنة التعليم؟


تشعر بالفراغ الهائل في صدرها، لقد اعتادت هذا الشعور منذ سنوات، لكنه هذه المرة يؤلمها بشكل حقيقي، هذا الثقب في صدرها، هو في الحقيقة ثقب في حياتها.


 


الجمعة..12 نوفمبر 2021:


تشرق الشمس وتتسلل من فراغات ستارة النافذة، خيوط من الأشعة تعبر الغرفة، في العادة تنتظر أسماء هذه اللحظة بلهفة، تستمتع بمتابعة الأشعة أثناء حركتها، لكنها اليوم مشغولة الفكر.


تنهض أسماء فترفع ستارة النافذة، سامحة للشمس بغمر الغرفة، ثم تجلس لتغمر نفسها بشلال النور والدفء الداخل من النافذة. ليس في الدنيا أجمل من الشمس، يبدو كل شيء تحتها واضحا.


حين استيقظت اليوم، استيقظ في عقلها سؤال دفنته منذ سنوات طويلة: لو لم تكن معلمة، ما الذي ستفعله؟


الحقيقة أنها لم تحلم يوما أن تكون معلمة، لكنها ظنت عندما اختارت أن تكون كذلك، أنها ستكون في الجانب الآمن. لم تكن تدري أنها ستواجه نصيبها العادل وحتى غير العادل من التحديات.


تلتقط مفكرتها الزرقاء الصغيرة، التي تخفيها في أعماق درجها الخاص، يحلو لها أحيانا أن تنفرد بمفكرتها، هذه المرة تريد أن تكون مرتبة على غير العادة في نثر أفكارها على الورق:


1 - أعمل معلمة في مدرسة حكومية منذ ستة عشر عاما، أكثر من ستة منها بدون راتب.


 -2لدي طفل يحتاج إلى اهتمام خاص جدا، ورعاية أكثر.


3- لا أستطيع التوفيق دائما بين عملي وواجباتي تجاه طفلي.


4- لا يمكن الاستمرار بهذا الوضع دون اتخاذ أي خطوة، هذا انتحار.


 -5التغيير هو الحياة، وحين لا يتغير فينا شيء سوى أعمارنا وأوزاننا، فنحن أموات حتى وإن كنا نأكل ونشرب.


 -6يحتاج التغيير إلى قوة هائلة.


تتوقف عن الكتابة للحظات، تحس بلسعة البرد، وتنتبه إلى أن أشعة الشمس قد تحركت، ولم تعد تغطيها، تزحزح جلستها لتلحق بالشمس، وتكتب:


7- يجب أن أجد مصدرا أستمد منه قوة التغيير.


    في تلك اللحظة يتحرك صغيرها، تنظر إليه فتجد أن أشعة الشمس تسقط مباشرة على عينيه، تبتسم، فيبادلها الابتسامة ويمسك يدها بيده.


تترك القلم والمفكرة، ستمضي بعض الوقت في اللعب معه. لأول مرة تشعر أنها يمكن أن تغلق ثقب حياتها.


 


 


تم إنتاج هذه المادة ضمن مشروع غرفة أخبار الجندر اليمنية الذي تنفذه مؤسسة ميديا ساك للإعلام والتنمية. 


حول الموقع

إل مقه - نادي القصة اليمني