الأعداد السابقة

رجل نصف مستفز

عبدالرقيب طاهر

رمى من فمه بقايا علكة كان يمضغها، أخرجتُ من جيبي منديلاً، التقطها من الممر المؤدي الى مدخل (الكافي شوب) و قذفتها في برميل كان مخصصاً لوضع النفايات بالقرب من باب المحل...

لم أعرهُ أدنى اهتمام واوصلت حديثي مع عامل المقهى.

من فضلك يا عزيزي واحد (كبتشينو) بالحليب وبعض قطع من (الدونات) المحلاة بالسكر...

نظر الرجل إليَّ شزراً وقال بتقزز لو كان لديَّ قطعة أخرى من العلكة لمضغتها مرةً أخرى ورميتها هنا ما دمت تحسن التقاط المخلفات.....

كنت مُسمراً بصري ناحية عامل المقهى وقلت بصوت منخفض دون أن التفت إليه: وأنا سأظلُ أحملُ كل قطعة تقوم بقذفها من فمك لأضعها في سلة القمامة..

ابتسم ابتسامة صفراء وأردف قائلاً: أعتقد بأن هذا الوطن ليس وطنك وليس هذ المكان هو مسقط رأسك لتظهر له كل هذا الحب والولاء، وتابع حديثه في استعلاء، كان من الأحرى بك إظهار هذه الوطنية (الزائفة) أقصد الزائدة في بلدك و الحفاظ على وطنكم وليس التفاني في حب أوطان الآخرين...

تناولت قهوتي من (الجرسون) الذي تفضل بتقديمها لي مصطحباً مبلغ الفاتورة...

دسست قطعة النقود في جيب سترته، ثم همستُ في أذنه عليك بخصم حسابي وحساب هذا الرجل القاعد أمامي والباقي بغشيشاً لك.

ارتشفت رشفة كاد صوتها يصل إلى مسمعه وأنا أدسُ في فمي قطعة من (الدونات المحلاة بالسكر) وألتهمها بشراهة.

ومن ثمَّ صوبتُ بصري ناحية الرجل مباشرةً، وقلت له يا عزيزي حب الأوطان من الإيمان وكما قال الشاعر بلاد العُرب أوطاني، وهذا هو وطني الثاني الذي مضى لي عقدٌ من الزمن قضيت فيه أجمل سنوات عمري..

فكيف لي أن لا أحبه؟!

يا صديقي العزيز أتعلم...؟ 

قاطعني فوراً وهو يخرج من جيب سترته حبة سيجارة من النوع الفاخر ويضعها في فمه من أين أنا صديقك؟! وأردف قائلاً في تعالي وهل تعرفني من قبل؟!

أربكتني مقاطعته و غلاظة رده بعض الشيء حتى كدتُ أن أتلعثم قليلاً في حديثي معه، إلا إني تماسكتُ نفسي وقلت في هدوء تام....

 هل بإمكاني أن أناديك يا أخي؟ هز رأسه رافضاً أيضاً....

ابتسمت إبتسامة صغيرة وقلت إذن سادعوك يا عزيزي أعتقد لن ترفضها هي الأخرى.....

تابعتُ حديثي وكأن شيئاً لم يحصل، فما كان منه إلا إن رضخ لي أمام هدوء و برود أعصابي...

قلت له أعتقد بأنك لم تزر بعض عواصم ومدن العالم، وإلا لكانت طريقتك في التعامل معي اختلفت قليلاً، قاطعني مرة أخرى بل طفتُ كثيراً من دول أوروبا وبعض مُدن شرق آسيا.

وضعت قهوتي على المنضدة الفاصلة بيننا ومن ثما قلت له بنبرة أقرب للتهكم قليلاً، يبدو أن أحدهم تعامل معك بطريقة عنصرية سيئة هناك أليس كذلك؟! 

أجابني على الفور لا بل قُوبلت بكل حفاوة وترحيب ولقيتُ حسن الاستقبال والمساعدة أيضاً..

* إذن ياعزيزي أليس من المهم أن نكون أفضل منهم أو مثلهم على الأقل؟! قلت له.

إن وجود الكثير من الناس في بلدٍ ما أكانوا أيادي عاملة أو زوار لغرض السياحة أو غيرها، فهم بمثابة نهضة اقتصادية للبلد المضيف فيها، وعنصر مهم في البناء والعمران للبلد المضيف، و من يدعي حب بلده فعليه التعامل مع ضيوفه بأسلوب أكثر رُقياً واحتراماً....

اقتربت منه قليلاً لأقول له حب الوطن ليس مجرد شعار أو قصيدة نقرأها أو قطعة قماش نعلقها على سارية العلم لنقبلها كل يوم في طابور الصباح....

حب الوطن سلوك ينبغي أن ينعكس على كل جوانب حياتنا..

حب الوطن أخلاق يجب أن تظهر في كل جوانب ونواحي حياتنا، حب الوطن نور يشع من قلوب أبنائه المخلصين ليضيء به كل من يريد أن يمد يده ليساعدهم على نهضته وبنائه.....

الوطن ليس مجرد قطعة أرض حدودها الجهات الأربعة يا عزيزي الوطن هو انا وأنت وهم، فالوطن بدون قاطنيه يصبح صحراء جرداء وبدون أخلاق يصبح مكاناً غير صالح للعيش.. 

لعلك وجدت يا عزيزي في تلك الدول الغربية كم سبقونا بملايين السنوات الضوئية، ليس لأنهم هم أولى مننا بل لأنهم أحبوا أوطانهم وعملوا بكل إخلاص وتفانٍ من أجل رفعته وعزته، لذا فقد استحقوا هذه المكانة التي وصلوا إليها..

تعاونوا مع الآخرين بدون عنصرية واستعملوا كل القادمين إليهم ليضعوا الشخص المناسب في المكان المناسب ليستفيدوا من خبراتهم ومن طاقتهم في بناء أوطانهم..

هذا هو الفرق بيننا وبينهم يا عزيزي، كان الرجل يصغي إلي بكل تفانٍ شاعراً بفداحة عمله الذي ارتكبه معي منذُ قليل..

نهض فجأة ليقبل رأسي معتذراً عما بدر منه ومستسمحاً بخجل منقطع النظير..

تعانقنا على نخب الوطن وتبادلنا أرقام هواتفنا بعد أن سكن الحب قلبينا وثالثنا الوطن...

دونتُ رقمه بعد أن أعطاني اسمه الرباعي وقلت له ممازحاً يكفي أن أدون اسمك في جوالي بالرجل المستفز..

قهقه ضاحكاً وقال بل رجل نصف مستفز يا صديقي..

 

حول الموقع

إل مقه - نادي القصة اليمني