الأعداد السابقة

شرائط الساتان

غدير الرعيني

حين تهاوت جدران ذلك البعيد الشبه بما يسمى منزل ولم تحتمل قسوة الحياة كان صدرها المأوى،وحين داست تلك الجدران بكل جبروت على ما تبقى من جسد الأب المعيل باعت هي جسدها للهيب شمس متلظية مقابل بعض قطع معدنية قد لا تكفي نهاية اليوم لشراء وجبة تسد جوع معدتين خاويتين.لم تكتفي فمتى كان لعطاء الأم حد وسقف.. تمنت لو كان باستطاعتها سرقة بعض تلك الضحكات النابعة من صميم القلب لأطفال زوار المنتزه القابعة أمامه بما تبقى لها من جسد أنثى لتهديها طفلتها الوجوم «نغم».
«نغم» التي دفنت آخر ابتسامة لها مع ألعابها وجسد أبيها الحنون علها تؤنسهم.
حين تنظر إليها لا تجد ما يميزها عنها فعيناها تكتحلان بنفس نظرة البؤس والألم، وخطوط التجاعيد قد تسللت في غفلة منها لتسطو على كفيها أيضا بجشع وغلظة. ثيابهما الممزقة ونظرات الاحتقار من المارة وكأنهما متسولتان تجعلها تتقيأ عالماً بائساً يتصنع مثاليته بتقزز مبالغ مع ما تبقى لها من أحشاء ورغبة في العيش. تهز رأسها بعتب على نفسها فكيف تفكر بهذه الأنانية!! تنشد السلام لروحها بالموت وتترك ابنتها لعالم باع نفسه للشيطان!  تنظر لنغم بعين دامعة وتعدها بأنها لن تستسلم للموت قبل أن تطمئن عليها. تظن نفسها تطمئنها بينما هي تشعرها بأنها عبء ثقيل عليها دون أن تدري.
ابتسمت نغم....
لم تصدق أمها عينيها وكأنها لم ترَ ابتسامة في حياتها قط أجمل وأطهر من هذه الابتسامة التي تبدو كنغمة صامتة تعدت بسحرها كل تلك النغمات المسموعة في الكون.
لن تتعذبي أكثر أمي ،أعدك. فأنا منذ اليوم لن أبقى بجوارك ساكنة متجهمة بل سنكد معا وننشد لقمة العيش يدا بيد.
كنت أحب غزل البنات أكثر من أي شيء حين يحضره أبي بألوانه الزاهية لأرى عالماً جميلاً بألوان قوس قزح في يديه.  اختفى هذا العالم برحيله وتوالت المصائب لكني أظن بقية الأطفال ما زالوا يصدقون كذبة العالم بألوان قوس قزح ولهذا أنتِ ستصنعينه وأنا أروج لبيعه فما رأيك.؟.
سقطت دمعة مخلوطة بالصدمة والفرحة والذهول والدهشة معا..متى صارت ابنتها هذه المرأة وكيف لها أن تنطق بكليمات أكبر وأثقل من عمرها بعشرات السنين. قاطع دهشتها سؤال نغم من جديد:
لم تردي أمي ما رأيك؟
خافت أن تختفي تلك الابتسامة التي تدفع بعمرها للهاوية مقابل ظهورها مجددا فأومأت برأسها قبولا وأختنقت الأحرف بحنجرتها لتبلعها بريقٍ مُر.
مضت الأيام وتجلت براعة نغم في اجتذاب الأطفال مع أهاليهم بغنجها ودلالها الطفولي حتى إن والدتها كانت ترى الكثير من نظرات الغيرة لدى بعض الأهالي وكأن ابنة البائعة لا يحق لها أن تكون بهكذا مواصفات فيشتعل قلبها خوفا عليها لكن ذلك الخوف يبرد بمجرد أن ترى الابتسامة تبرق من عيني نغم..
تغيرت الأحوال واستطاعت الزهرتان جني ما يكفيهما لإيجار غرفة مع حمامها وما أن وضعتا قدميهما فيها حتى شعرتا بأنهما قد سكنتا قصراً من قصور الحكايات وبعد أيام اشترت الأم آلة للغزل بدل تلك المؤجرة وبدا لهما وكأن الكون يجود عليهما ببعض من ألوانه المخبأة. لكن أنّى لعالم جهنمي أن يبتسم وان ظنتا أنيابه ابتسامة هو فقط يتلذذ بسرقة الفرحة حين تصل لذروتها.. ها هي الأم صباحا تخبر نغم بأن اليوم هو ذكرى مولدها وتسألها ما الهدية التي تتمناها فتتبدل البسمة ويغرق بؤبؤ عينيها في بحر دمع بلون الغروب
باقة من زهور الليلك نضعها على قبر والدي..
لم تتمالك الأم نفسها لتطوق نغم والدمع ينهمر حار وغزير كالدم في عروقها وهي تردد: لكِ ذلك غاليتي.
لبست نغم فستانها الأبيض وسرحت والدتها شعرها بشرائط الساتان الحمراء فبدت كالملاك..هاهي طفلتها تتورد وتعود كما كانت..لم تصدق أنها ستعيش لتراها هكذا من جديد حتى أن الأحلام توالت لتتخيلها عروس في يوم زفافها. أشترت والدتها باقة الزهور، وبينما هما تقطعان الشارع للوصول إلى المقبرة سقطت الباقة لتنحني «نغم» انحناء عروس تقبل يد اشبينها. صوت مكابح يعود بالأم إلى الواقع لترى نغم وقد سالت ألوان شرائط الساتان في شعرها على كل جسدها. يبدو أن موعد رحلة السلام قد حان.

حول الموقع

إل مقه - نادي القصة اليمني