الأعداد السابقة

ملوك أرضنا القذرة

د. مروان الغفوري

1. مطلع القرن الماضي، 1900 إلى 1909، عرف العالم لأول مرة قصة حاملي المرض الصامتين. فقد كانت ماري مالون، إيرلندية الأصل، تعمل طباخة لدى بعض الأسر الثرية في نيويورك، تنتقل من أسرة إلى أخرى. أثناء تنقلاتها، خلال أعوام، نقلت بكتيريا التيفوئيد [سالمونيللا] إلى حوالي53 فرداً، ومات بالمرض بضعة أشخاص. لم تكن تعاني من أي أعراض، ولم يكن المجتمع الطبي قد توصل بعد إلى معرفة تلك الظاهرة المحيّرة. إلى أن خطرت الفكرة في رأس طبيب تتبع، عن طريق الصدفة، حركتها ولاحظ الضحايا المتشابهين. رفضت السيدة مالون إجراء أي فحوصات، فهي لا تعاني من أي مرض ولا تقبل التشكيك في صحتها وتهديد مصدر رزقها. استعان الطبيب الذي شك في كونها المصدر، بالشرطة. في آخر الأمر، بعد أن أثارت سؤالا طبياً في عموم البلاد، مُنعت ماري مالون من ممارسة أي عمل. ومع مغادرتها لآخر منزل عمِلت فيه كانت الصحف قد غيّرت اسمها إلى «ماري تيفوئيد». في العام 1982 أعاد الروائي السويسري فيدرشبيل التذكير بقصتها من خلال روايته الشهيرة «أهزوجة ماري تيفوئيد». 


أمس أثار شتريك، عالم فيروسات من بون، جدلاً بعد أن نشر دراسته الجديدة. حتى إن صحفاً كبيرة، مثل فرانكفورته ألغيماينه ودير شبيغل، وضعت عناوين عريضة مليئة بالتفاؤل وتبشر باقتراب موعد الخروج. قام شتريك بفحص الأجسام المضادة، بشكل عشوائي، لحوالي 500 شخص من مدينة هاينسبيرغ في غرب ألمانيا. تعرف المدينة بأنها مركز الوباء، فهناك التحق أول زوج مصاب بالفيروس بكرنفال الربيع منتصف فبراير الماضي [كان الوقت لا يزال شتاء]. لاحظت الدراسة أن 15% من الناس يحتوي دمهم على أجسام مضادة ضد فيروس كورونا! وأن نسبة ملحوظة منهم لم ترتبط بالمرة بأي مصاب. في تقدير فريق البحث فنحن أمام شكل من أشكال مناعة القطيع. لاحظوا ما الذي تخيله: إذا دفعنا ب 15% من السكان إلى الشارع مرة أخرى، وهم يحملون المناعة، فإن ذلك سيعرقل حركة الفيروس [تخيلوا: أن تضع أحجاراً في طريق القطار]. لا يزال النقاش مستمراً حول هذه الدراسة، ومن أهم الدفوعات ما نشر هذا الصباح حول فرضية علمية تقول إن حوالي ثلث حالات الإنفلونزا الموسمية تسببها أنواع عديدة من فيروسات كورونا غير Cov-SARS 2 .. وعليه فمن الصعب القول إن المناعة التي لاحظها فريق البحث موجهة بالضرورة، أو ناشئة عن، كورونا المستجد! 


الحقيقة أننا لا نزال نجهل الكثير حول حركة هذا الوباء. تخيلوا معي هذه الدراسة التي نشرت قبل بضعة أيام:

معدل تركيز الفيروس في أنف وحلق المصاب الذي يعاني من الأعراض [كالحمى والسعال] ليس أكثر من تركيزه لدى المصابين الذين يعانون من أعراض خفيفة أو لا أعراض. الجدل لا يزال قائماً، وسبق أن حصلنا على بيانات «مستعجلة» من منشورات علمية صينية تقول إن الذين يعانون من الأعراض أكثر قدرة على إصابة الآخرين من الحاملين الصامتين. حسناً، تذهب مقالة رصينة ستنشر غداً في القسم العلمي على الإيكونوميست [وصلتني نسخة منها على الإيميل، كمشترك في الصحيفة] إلى افتراضات مثل: السعال المتكرر، استخدام «المُعاني» لعدد كبير من المناشف والملاءات .. إلخ. ذلك قد يساعد على نقل العدوى. لكن التركيز الفيروس متقارب عند الاثنين: من لديه أعراض، ومن لا يعاني. 


تقول البيانات الجديدة، التي أثارها جدل الكمامات [نلبس كمامات أو لا؟]: ينتقل الفيروس عند طريق القُطيرات [دروبليتس]، أي الكلام والضحك. ولأن تلك القطيرات يتراوح قطرها بين 3 و 5 ميكرون [بالغة الصغر] فلنلبس الكمامات. الكمامات العادية كافية، ولا يوجد فرق في الكفاءة بينها وبين الكمامات السميكة N95 .. هذا ما توصل إليه «ميتا أناليسيس» أجرتها منظمة الصحة العالمية مؤخراً.


للإفادة:

أعلى درجات الدليل العلمي هي   Meta analysis [استخدام المصطلح لأول مرّة سنة 1978]. وفيه توضع كل الدراسات المتعلقة بموضوع معين في صندوق واحد وتجرى لها عملية تحليل كبحيرة بيانات واحدة، ثم يُفضي التحليل إلى استنتاج واحد وتوصية واحدة. على أن قوة وجودة الميتا أناليسيس تعتمد، في النهاية، على جودة الدراسات التي اعتمد عليها. 


نلبس كمامات أو لا؟ 

بالأمس استمعت إلى الدكتور فاوتشيو، نجم مشهد الكورونا في الولايات المتحدة. تحدث في بودكاست الإيكونوميست لمدة 23 دقيقة. ومما قاله، وأجده غاية في الإثارة، إن المصافحة باليد ربما تصبح جزء من الماضي، وأن عهدها قد ولى كعادة اجتماعية. سنعود إلى الحياة بعادات جديدة. رأيت بالأمس شكل الحياة الجديدة في مركز للتسوق: يقف رجل أمام المتجر بيده رشاش للتعقيم، الزبائن متباعدون في مسافات تصل إلى خمسة أمتار، طرقات المتجر لا تُشغل إلا باثنين إلى ثلاثة أشخاص، العاملون يلبسون الكمامات ويحدثونك عن بعد، المحاسبون يقفون خلف ساتر، موظفات يلبسان نظارت وجه كاملة، يقوم موظفون آخرون بتعقيم مقابض عربات التسوق، كبار السن يحدقون بالمارة كأنهم قتلة محتملون. 


2. لماذا؟

الأوبئة والحضارة. نقلت أوروبا الجدري إلى أميركا اللاتينية، وجاءت السفن المصرية بالطاعون إلى القسطنطينية [القرن السادس الميلادي]، ومات سكان الهنود الحمر بالحمى الصفراء والجذام، وفاضت آسيا على العالم بالفيروسات، ومن جمال الشرق الأوسط خرج MERS، أحد نسخ كورونا اللعينة. وخلال ثلث قرن الأخير ضرب العالم أكثر من 12 ألف وباء. 

لاحظوا الموجات الأخيرة:

2002: سارس.

2009: إنفلونزا الخنازير

2014 عملية مشتركة لكل من  إيبولا وانفلونزا الخنازير.

2019كوفيد 19. 

أربعة أوبئة قاتلة خلال أقل من عشرين عاماً.


تاريخياً، وهذا ما لا بد أن نضعه في الحسبان، تظهر الأوبئة مع الحضارة: الكثافة السكانية، زيادة الاتصال بالحيوانات، والقذارة. 

بين القرنين الثالث عشر والسابع عشر ضرب وباء الطاعون لندن أربعين مرّة! 


نحن نعيش في عالم قذر. في المشهد الافتتاحي لفيلم «العطر» يسقط الجنين من رحم امرأة على أرض وسخة بالقرب من بائع سمك. كان ذلك المشهد هو بيت الوباء، وهو ما سيدفع الجنين مستقبلاً لكي يكون مخترع أعظم العطور. المشهد نفسه في فيلم الطبيب Der Medicus .. حياة اجتماعية مكدّسة داخل القذارات، الموت والأوبئة تأكل الجميع [ما فعله الجدري والسل تعج به كتب التاريخ]، فيسافر ابن الطبيب الشعبي إلى أرض المسلمين بحثاً عن العلم وعن ابن سينا. من ابن سينا سيتعلم الكثير وفي مقدمة ما تعلمه: النظافة.


هل لا نزال نعيش في عالم قذر؟

قالت دراسة نشرت في العام 2018 إن 70% من الدجاج الذي يباع في متاجر ألمانيا مصاب ببكتيريا سالمونيللا! نصحت الدراسة بلبس الكفوف وتعقيم حوض الغسيل، وبوقت كافٍ وحرارة كافية لطبخ الدجاج. دراسة أخرى اكتشفت أمراً صادماً: الشاورما/ الدونر .. سالمونيللا أيضاً. فالأجزاء الداخلية من سيخ الشاورما لا تصلها كمية كافية من الحرارة أو تستخدم بسرعة. كم مرة عانيت من إسهال غير معروف المصدر؟


3. في العام 2005  أنتجت قناة /مؤسسة التاريخ «هيستوري تشانيل» فيلماً بعنوان: الطاعون القادم. 

خذ الفيلم شكل الوثائقي، وتحدث كما لو أن الطاعون القادم قد حدث بالفعل.  استعانت بمجموعة جيدة من علماء الوبائيات والفيروسات ..

إليكم ما تخيله ذلك الفيلم: 

فيروس قاتل من فصيلة إنفلونزا الطيور N5H1

يجد الفيروس طريقه إلى العالم عن طريق المسافرين والبضائع. يصل إلى أميركا عبر مسافرة قادمة من آسيا [المريضة صفر]. يتمتع الفيروس بسرعة هائلة في الحركة والانتقال، يتسبب في التهاب حاد في الجهاز التنفسي، يصل معدل الوفيات إلى 3%، تعجز المشافي بسبب قلة أجهزة التنفس الاصطناعية، وعلى الأطباء أن يقرروا من سيعيش ومن سيموت [من سيحصل على الجهاز المتبقي]، يموت الناس في الشارع، يحدث عجز حاد في الحصول على التوابيت، تتوقف كل شبكات الطيران، ينهار الاقتصاد، تخلو الشوارع من المارة، تغلق الحياة بشكل عام عدا الكنائس: ستنحصر مهمتها في الصلاة للرب والدعاء للموتى، تهرب الحكومات إلى الملاجئ، تتخبط الشركات بحثاً عن اللقاح، ينهار العالم.

ما الذي دفع الشركة إلى إنتاج ذلك الوثائقي المتخيل؟

ربما، مما وجدته أثناء بحثي، تأكيدات متكررة من مركز رصد الأوبئة CDC  الأميركي، أهم مركز رصد في العالم، عن أن الوباء الجديد قادم لا محالة، ويبقى السؤال هو: متى. سبق أن أشرت إلى مقالة نشرها فريق بحث إيطالي عمل على وباء سارس، ثم نشر دراسته في العام 2005 بعنوان: الوباء القادم. 


4. متى تنتهي الأوبئة؟

ثمة مقولة تاريخية عن طاعون جاستين [أو طاعون القسطنطينية، القرن السادس]:

وقد تلاشى الطاعون عندما لم يجد أحداً يقتله. 

انشغلت في السنوات الثلاث الماضية بدراسة تاريخ الطب، ووجدته مثيراً أكثر من الطب نفسه [قال ماركيز: إن الحديث حول الأدب أكثر متعة من كتابته]. أوبئة قليلة هي التي تخلصنا منها حتى الآن. في العام 1942 اخترع علاج فعال، هو الأول على الإطلاق، ضد داء السل. ثم توالت العلاجات في خمسينات وستينات القرن الماضي. قتل السل من البشر أكثر من كل حروبهم على مر العصور. اعتُقِد أن السل أصبح في متناول أيادينا. إليكم هذا: قتل السل في العام الماضي قرابة عشرة ملايين بشر. وقبل ستة أشهر أعلنت شركة أميركية، بقدر من النشوة الاحتفالية، التوصل إلى علاج لسلالة خطرة من السل، محورة ومقاومة لكل ما لدينا من علاج. أصيب في العام الماضي قرابة 53 شخصاً في أميركا بتلك السلالة وماتوا جميعهم عدا واحد منهم! 


لاحظوا التالي: كنت أستمع إلى خبير غذاء في ألمانيا، كان يعرض بياناته. قال إن الأجبان المكتوب عليها «أجبان جبال الألب»، حيث تظهر على الغلاف صورة لبقرة سعيدة على أرض خضراء وإلى الخلف جبال مغطاة قممها بالثلج .. تلك الأبقار ليست فقط بعيدة كل البعد عن جبال الألب، بل إنها لم ترَ حشيشاً أخضر على الإطلاق!

الرأسمالية الوحشية التي نقلت الجدري إلى العالم الجديد [ونقلت معه الحرية، كما قالت المرافعات التي ووجه بها إدوارد سعيد] هي من يجعل حياتنا على الحافة. البيانات المتوفرة تقول إن البيئة والصناعة تغير في طبيعة العالم غير المرئي، عالم الوباء. ونحن أيضاً نصبح أقل قدرة على مواجهة المرض. تعرفون أمثولة حصان الريف! كان يأكل من الأحراش، ويرعى في البرية. وعندما اشتراه تاجر من المدينة قدم له العصيدة فأحبها. ومع الأيام تسوست كل أسنانه!


5. لنعش نظافاً، وبِطاءً. لنبطئ، علينا أن نبطئ بعض الشيء وإلا فإننا لن نتمكن من الحياة مستقبلاً. قال مركز رصد للزلازل من بلجيكا إن الاهتزازات الأرضية الخاملة والدقيقة التي كان يسجلها على مر الوقت هدأت في الأسابيع الماضية بعد توقف القطارات والطائرات والمكائن! نحن نهز الكوكب على مر الساعات. ولوحظ تحسن درامي في مستوى نقاء الأجواء وانحسار في التلوث البيئي منذ مقدم كورونا! 


هذا العالم القذر هو بيت الداء. لاحظوا أن تلوث العالم بالحرارة وثاني أكسيد الكروبون والكيمياء والبلاستيك هو نفسه ذلك التلوث الذي لاحظناه في المدخل الدرامي لفيلمي الطبيب والعطر. نحن نعيش في عالم قذر، كما عاش أسلافنا. القذارة أخذت شكلاً جديداً، لكنها قذارة، وبما يناسبها حصلنا على أوبئة. وبدلاً عن المعدل التاريخي البطيئ، حيث كانت لندن تضرب بالطاعون كل عشرين عاماً .. أصبحت لندنا نفسها، ومعها نحن، تصاب بالطاعون أربع مرات كل عشرين عاماً، كما ذكرتُ أعلاه .. 

حول الموقع

إل مقه - نادي القصة اليمني