الأعداد السابقة

النزوح إلى نفس المكان

رستم عبدالله عبدالجليل

ألِف النوم طوال النهار يقضيه متقلباً في فراشه الطينـي الـخشن بغرفته القاحلة العطنة ذات الـجدران الباهتة، أو بالأحرى سردابه المعتم الطويل الذي اتخذ منه مأوى يأوي إليه ليقيه من لسعات البرد القارس في ليالي الشتاء الباردة الطويلة، ومن حرارة الشمس اللاهبة في النهار الذي عافه ولم يعد يعرفه قط منذ أعوام عديدة مضت.


منذ أن هجرته زوجته وصغاره الأربعة، قرر أن يتخذ من سردابه خلوة يبث لها أوجاعه وأحزانه ويلقي إليها بجسده الشاحب الضئيل المنهك ويريح بها أقدامه التي كلّت من السير الطويل في أزقة وشوارع المدينة التي مزقتها آلة الحرب ودمرت بنيانها، وهجرها سكانها، وتبقت بها بضعة أسر.


كان يستجدي في براميل القمامة، وأكياس الزبالة فتات طعامهم الرديء الذي قل ولم يعد كمثل دسَم الأيام الخوالي بسبب وضع الـحرب وما آل إليه وضع الناس من العوز والفقر والكفاف حيث عطلت الحرب مظاهر الحياة العامة وانعدمت فرص العمل وشـحّت الموارد، ولم يعد بمقدور الناس الحصول على قوت يومهم إلا بمشقة وصعوبة وانعكس الوضع عليه وعلى المئات من أبناء جلدته الذين وجدو منذ الأزل ووجدوا أنفسهم عبر أزمنة غابرة يتسولون طعامهم أو يحصلون عليه بهذه المشقة والذل.


ورغم هذا الوضع المرير المؤلم وعذاب البحث الدؤوب عن لقمة عيش قد تجدها أو لا تجدها في نفايات الآخرين ظل الناس يأخذون عنهم نظرة قاصرة أنهم أهل جحود لايقدرون ثمن هذه النعمة التي هم فيها ولا يشكرون من يلقيها إليهم ترفاً بعد شبع لا إحساناً ولا إحساسا بهم.


وككل ليلة، في ليلة صيفية حارة من ليالي الحرب المفزعة وقد لبس الليل قناعه الأسود المخيف، خرج من مأواه الكئيب مرتجفاً يتلمس الظلام يبحث بعينيـن متوهجتيـن عن قوته وسط أصوات القذائف المدوية التي أخذت تمطر المدينة المستكينة الهادئة وراحت تدمر كل جميل فيها وتحصد أرواح من تجدهم في طريقها، ومن يتحصنون تحت أسقف المنازل لم يعد بمقدور أي شخص الاحتماء من قوتها التدميرية الهائلة التي صارت أكثر عنفا وقوة من قبل وصارت تختـرق العمارات المرتفعة وتحولها إلى كومة ركام وتتساقط على الملاجئ والأماكن المنخفضة وتنسفها هي الأخرى وتحرق من لا تقدر على تدميره وتقضي على كل ما ينبض بالحياة. جعله الـجوع يخاطر. أخذ يغذ السير في الأماكن التي يتوقع أن يجد فيها طعامه لم تعد الـحارة اليوم كالأمس لا شيء يوحي بالحياة لم يبق سوى ركام المنازل وآثار دمار ومعركة شرسة جرت وهو يغط في نومه العميق الذي كلفه الكثير، نزح الجميع عن الحارة؛ أغنياؤها، وفقراؤها حتى الحيوانات المستأنسة، والمتشردة هي الأخرى نزحت. ظل يتنقل من مكان إلى آخر ومن حارة إلى أخرى.. وجد طعاما سد به رمقه وأسكت جوع يومه، اكتشف تجويف يأوي إليه في أنقاض منـزل مدمر.


مرت بضعة أيام يحصل فيها على طعامه بمشقة من بقايا طعام الجند الذين يمشطون المكان ليل نـهار ولم يلحظوا وجوده. لحظ أحدهم بعد أيام عينيه اللتين تنبثقان من بين الظلام الدامس. سلط عليه مصباحه اليدوي استغرب وجوده. نادى لرفقته الذين ألقوا عليه نظرة.. «لا».. ومضوا ولم يعيروه اهتماما.


 تمر الأيام ثقالا وتزداد سوءاً، لا رفيق ولا أنيس له سوى زمجرات القذائف ولعلعة الرصاص. سئم الوحدة. الوحشة والضيق يكادان يفتكان به. صدره نافورة حزن على ما حل بالمدينة ولا يدري كنهه، الشوق والحنين يمزقانه لرحيل ناسها بكل تناقضاتهم وتكبرهم الذي صار يحن إليه، ويرى فيه ذكريات عيش رغيد، وزمن خير، يتنقل به شريط الذكريات إلى زوجته وأسرته وأيام الشباب ويوم مولد صغاره الأربعة الذين ولدوا بنفس الليلة يتذكر فرحته وفرحة زوجته العارمة ومداعبة صغاره وحُنوّ الناس غير المعهود عليهم، وإغداقهم على زوجته باللحم الوفير وأواني الحليب لأطفاله. ينفجر بركان أسى وحسرة من صدره ويموء مواء حزينا يشق عنان السماء ويقرر النـزوح ولكن آلة الحرب والقذائف المتساقطة كالمطر تعصف بقراره المتأخر جدا وتسد عليه كل فرص النزوح الذي فات أوانه وتحاصر آماله الفانية وتجبره على النزوح إلى مكانه الأول وسردابه الطيني المظلم.

 

حول الموقع

إل مقه - نادي القصة اليمني