الأعداد السابقة

تجليات الذات و التاريخ في رواية «مسامرة الموتى» للغربي عمران

فاطمة بن محمود

للأديب اليمني محمد الغربي عمران خمس مجموعات قصصية صدرت بين صنعاء والقاهرة ودمشق هي «الظل العاري» و»الشراشف» و»حريم أعزّكم الله» و»مئذنة سوداء» و»ختان بلقيس» وبعد ثلاث روايات هي «مصحف أحمر» و»الثائر» و»ظلمة يائيل» التي حازت على جائزة الطيب صالح العالمية للإبداع الكتابي (سنة 2012) أصدر مؤخرا عن دار الهلال بمصر رواية «مسامرة الموتى» (2016). 


عتبة الغلاف

اختار الروائي الغربي عمران صورة الغلاف قصرا يمنيا بُنِيَ على الطراز اليمني التقليدي الشهير والفريد من نوعه في العالم ولهذه الصورة دلالات عديدة لعل من بينها الإشارة إلى أن اليمنيين ليسوا رُحَّلا يقيمون في خيام بل كانوا أهل حاضرة بيوتهم مستقرة ولهم أرضٌ يطيب فيها العيش كانت تسمى «العربية السعيدة». 

 في صورة الغلاف نجد قصراً ضخماً فقط وقد حذفت كل المباني المجاورة له للإيحاء بقوته وهيمنته على كل الفضاء المحيط به، كما التقطت الصورة من الأسفل واختيار نوع الزاوية في التصوير تتحول إلى مفردة لغوية بالغة التعبير في تضخيم البناء وإعطائه نوعاً من الهيبة والوقار والقوة والعظمة.

ولأن العمارة اليمنية هي إحدى العلامات البارزة التي ينفرد بها اليمن وحده، ولئن اختارها الروائي لتكون غلاف روايته ربما تعود إلى رغبته لينتبه القارئ منذ البداية إلى انتمائه لليمن.

 وعندما نعلم أن أحداث الرواية تعود إلى حقبة في تاريخ اليمن نفهم أن الروائي مهتم بتجذّر بلده في التاريخ، ويرى أن هذا التاريخ الطويل الذي يضجّ بالحكايات والأساطير يمكن أن يكون مادة خاما يصنع منها روايته ويسمح لخياله بأن يرتع في هذا التاريخ ويلتقي بشخصيات عظيمة ويجعلها تنطق بما يريد.


عتبة العنوان

يُعدّ العنوان من أهم المداخل لقراءة النص الأدبي، وبحكم دلالاته المختلفة فإنه يساهم في إثارة القارئ، وتوجيهه. بل ربما أهمية العنوان تكمن في إشارته إلى «السياق الكلّي للرواية»، ولعل العنوان ينجح في إثارة القارئ عندما يتضمن نوعاً من المفارقة ذات شحنة رمزية واستعارية مثلما اختار الغربي عنوان روايته: «مسامرة الموتى». 

المسامرة هي المحادثة ليلاً، وإن كانت تحيل إلى السمر بما يعنيه من متعة الصُحبة، ولذة الحديث إلا أن الروائي اختار لهذه المسامرة أن تكون مع الموتى.. ومن هنا يصنع صدمة للقارئ فهل يعقل أن يسامر المرء موتى؟ وأي متعة في ذلك؟

عندما ينتهي القارئ من الرواية سيعلم أن الموتى هم شخصيات هامة كتبت حقبة من تاريخ اليمن، والروائي يسامرهم لأنه أدرك أن بإمكانها أن تعود بما هي كرموز، وتنظر في واقعنا، وتتحدث عنا بصوت مرتفع ولا أحد يلوم الموتى على صراحتها الشديدة.


تلخيص الرواية :

تدور أحداث الرواية حول ناسخ كُتُبٍ اسمه جوذر من أصول يهودية تتلمذ على يديّ رجل مسلم، عاش جوذر في ظروف غامضة تسيطر عليها الفتن والمعارك وتحرّكها الدسائس والمؤامرات. أُختطف ورُمي به في السجن ومن هنا تنطلق أحداث الرواية إذ يجد نفسه تحت سيطرة امرأة ذات سلطة وجاهٍ (من الشيعة) يحتكم بأوامرها، ويكتب لها مراحل من تاريخ الحقبة السياسية التي تحكم فيها ويضطر في الأثناء إلى اختيار طريقة التراسل ليتواصل مع امرأة تظل علاقته بها غامضة يسميها شوذب هي ابنة معلمه وتتحوّل في ذهنه إلى وهم لا يدركه، وفي هذه الأجواء المليئة بالتوتر والخوف والحب والحنين والرغبة والسلطة والنفوذ تتوالى أحداث مشوقة تتقاطع مع مصائر الشخصيات فهناك من ستتحول من أمَةٍ إلى ملكة ومن ستنتقل من المجد إلى التشرد...


دلالات الرواية : 

التاريخ والحاضر وأسئلة الواقع

لعل ما يُحسب لرواية «مسامرة الموتى» أن الروائي الغربي عمران يتجرّأ على التاريخ ويستعمله مادة روائية يعيد من خلالها كتابة الأحداث أدبيا وفي هذا نفهم انه لا يهتم بقدسية التاريخ ولا يعتبر الشخصيات التاريخية التي تصلنا محمّلة بهيبة ووقار تجعلنا نهابها بمنأى عن النقد، وهذا يعني أنه كمبدع له الجرأة والقدرة على التطاول أدبيا على الشخصيات المقدّسة التي تبدو بمكانة الآلهة ومن خلال إسقاط القناع عنها نكتشف أنها شخصيات عادية بل أقرب إلى النمطية تتنازعها الرغبة والغريزة كما أنها تحتكم إلى المحبة والأنانية والخوف والطمع والفضول والحيرة والجرأة والشك والفشل... 

في هذا الإطار نجد الروائي الغربي عمران يستغل المرحلة التاريخية للملكة أروى ليسقط عنها قناع السلطة ورداء الجاه والنفوذ ويحولها إلى امرأة عادية تحركها الرغبة والغريزة وتلهث خلف الجاه والنفوذ وتسقط في شباك المؤامرات والفتن، بمعنى أن الروائي هنا يسقط الهالة التي تحيط بالشخصية ويكشف عن حقيقتها وفي ذلك يدين المقاربات التاريخية التي ترفع الشخصية إلى مصاف الآلهة وتجعلها منزّهة عن كل ما له علاقة بالبشر.

اختار الروائي الغربي عمران العودة الى تاريخ اليمن ليستلهم منه فكرة الرواية التي اعتقد أنها إجابة على أسئلة من طينة: ما الانسان؟ هل يخضع إلى طبيعة خيّرة أم شريرة؟ ما الذي يحدد مصيره؟ ما الحقيقة؟ هل الزيف ينفي الحقيقة أم يؤكدها؟ 

للإجابة عن هذه الأسئلة وغيرها وظّف الروائي التاريخ اليمني بمثابة رُكح، وأتى بشخصيات حقيقية من هذا التاريخ ليمنحها أدوارا يبحث فيها عن طبيعة البشر التي تتراوح بين الخير والشر لتحقق لنفسها قيمة اعتبارية ومادية تضمن بها إنّيتها، ومن خلال الأحداث التي تدور في قصور الملوك نطّلع على العلاقات الإنسانية التي تحتكم إلى مؤامرات ودسائس تتحوّل إلى معارك وحروب وتنتهي بتاريخ يكتبه الأقوى ويمليه كما يريد على كَتَبَتِهِ لا يصلنا إلا وقد أثقل بقيمة اعتبارية تجعله مقدسا لا يقبل الشكوك ويصبح من قبيل المسلّمات التي لا يمكن لأي سبب التفكير فيه نقديا. 

 لذلك أعتقد أن الغربي عمران لم يقصد أن يكتب التاريخ ولا أظن أنه يعنيه أصلا حدث تاريخي بعينه بقدر ما أراد ان يبحث في إشكاليات أساسية تتعلق بمفهوم الإنسان في علاقته بالحقيقة والهوية والدين، أعتقد انه أراد أن يجيب عن سؤال ما الإنسان وما وظيفة الدين وما معنى الانتماء إلى وطن. لذلك لا أجد أن الغربي عمران يعيد كتابة التاريخ فهذا القول الذي ذهب إليه البعض يعكس رؤية سطحية للرواية وإنما جعل من التاريخ مجرد رُكح وأرسل شخوصه بمسميات شخصيات تاريخية ولم يكن هذا جديدا في الأدب فقد سبق الكثير من الروائيين العالميين الغربي عمران في ذلك مثل بسترناك في رواية «جيغالو» وماركيز في «الجنرال في متاهة» ونجيب محفوظ في «الكرنك» وجمال الغيطاني في «الزيني بركات» وأمين معلوف في «ليون الإفريقي» وعلي المقري في «اليهودي الحالي» وغيرهم كثير...

ما يحسب للروائي أنه عندما يشتغل على مرحلة تاريخية ويجعلها خلفية لأسئلة الراهن فانه يجعل من الرواية بما هي نمطاً أدبياً من أفضل الطرق لسحب القدسية عن التاريخ وإعادة النظر فيه وهذا يمهد لقراءة علمية موضوعية حتى لا تتكرر الانكسارات ولا تُعاد الهزائم ولا يظل الإنسان العربي يعيد أخطائه ويراوح في نفس المكان..

ولعله من هذا المنطلق تصبح الرواية في حد ذاتها في مرتبة فضلى تضمن متعة القراءة من جهة وتقرّب الإنسان من الحقيقة من جهة أخرى. بهذا المعنى يمكن أن تصبح كتابة رواية عن الملكة أروى أفضل من التاريخ الذي كُتب حولها لأن الكتابة حولها –شأن كل الكتابات التي تدور حول الرموز التاريخية- كانت في مجملها كتابة تمجيدية رومنسية حالمة، والرواية هي التي ستنزع عنها كل قدسية وتجعلها قابلة للتشريح العلمي. 

لعل السؤال الذي يطرح نفسه الآن هو لماذا لجأ العديد من الروائيين العرب للتاريخ لكتابة رواياتهم؟

يبدو أن لجوء الروائيين العرب للتاريخ لكتابة الحاضر يعكس من جهة الواقع الضيق ومجال الحريات المحدود جدا الذي لا يوفر فضاءً رحباً للتخيل، وحرية في انتقاء المواضيع لذلك يجد الروائي نفسه مضطرا للعودة الى التاريخ لكتابة روايته هي طريقة ممكنة ليقول رأيه في ما يحدث حوله وتفادي الصدام الممكن مع مختلف السلطات الاجتماعية والدينية والسياسية وينتقد بأمان الواقع السياسي المتعفّن الذي يشهد صراعات عنيفة من أجل الظفر بسلطة تكون دكتاتورية مستبدة وظالمة.

ثانيا إن تجرؤ الروائي على التاريخ في مجتمع اعتاد الخمول وتعوّد على قدسية الرموز يعني تحويل تلك الرموز إلى كائنات بشرية تحب وتكره وتحلم وتحيك المكائد وهذا ربما يزعج الوعي السائد ويجعله لا يقبل إعادة النظر في مسلّماته ويصعّب عليه مغادرة الخمول الذهني والتفكير بصوت مرتفع في واقعه البائس. وربما لذلك نفهم هذه الأصوات التي ارتفعت حول رواية «مسامرة الموتى» ولامت الروائي الغربي على تنزيل الملكة أروى من عرشها وإقحامها في عالم متخيل والكشف عن أجواء الفتن والدسائس التي كانت تشارك فيها ويبدو تبرير بعضهم أنه لا يجوز التعنّت على ملامسة أصنام الماضي المقّدسة وهو تبرير يبدو معقولا بالنسبة لكل شخص تهيكل وعيه على عبادة الأصنام وتسليم أعمى بحقائق جاهزة لذلك أجد الغربي عمران يرغم القارئ على إعادة التفكير في التاريخ الذي وصلنا أصلا هل هو حقيقي أم مزيف؟ 

وتبدو صراحة الغربي عمران شديدة عندما يقدم في روايته الشخصية الرئيسية (جوذر) في دور ناسخ الكتب ليكون هو مؤرخ الملكة يكتب لها التاريخ حسب أوامرها ووفقا لإرادتها وأعتقد أنه أراد أن يقول أن التاريخ الذي وصلنا ليس نقيا بل كتب دون موضوعية ويوضح ذلك في إحدى حواراته الصحفية عندما يقول: «أي تاريخ نتحدث عنه؟ كل تاريخنا مزيف، فماذا تريد من المنتصر أن يكتب، أو صبيان السلطان أن يكتبوا؟ ما يعرف من تاريخ كتبه مقربون من بلاط السلطة. ولذلك كله زيف» 

لذلك أن يعيش الإنسان بتاريخ مزوّر تهيمن عليه الذاتية له طابع رومنسي يعني أن يتحول إلى مستهلك لأوهام تبعده عن واقعه وتعتّم على مستقبله ولعل الغربي عمران في هذه الرواية يحفّز المجتمع على نقد التاريخ ويدفعه إلى مواجهة الحقائق التي تصله جاهزة وتشريح الشخصيات الصَنمية التي يقدّسها باسم التاريخ. 


البحث عن الذات والهوية 

لعل من الأسئلة الرئيسية التي أجد أن رواية «مسامرة الموتى» تطرحها هي سؤال الذات في علاقتها بالهوية والدين. 

تتجلى خصوصية الذات في هذه الرواية في أنها تنتمي إلى ثقافة عربية يموضعها الكاتب في سياق تاريخي محدد وهذه الذات لا تبحث عن نفسها في علاقة بالأخر المختلف عنها حضاريا (الغرب) بل هي ذات تتحدد من خلال مكوناتها الخاصة والمختلفة اجتماعيا ودينيا وعرقيا هذه المكونات التي تجمع الإسلام باليهودية، والسُنّة بالشيعة، وطبقة الحكام بالعبيد والرعاع، وتصنع لها علاقة مرتبكة تجعلها مرة صدامية وأخرى «توافقية» وتتراوح بين علاقات حقيقية وأخرى وهمية.

 تتحدد ملامح الإنسان في هذه الرواية من خلال شخصية الراوي «جوذر» الذي يشتغل كاتب رسائل القصر بما هو ذات واعية تعبّر عن ذاتها من خلال الكتابة التي يحترفها من أجل أن يعيش، على امتداد الرواية كان جوذر وحيدا في عزلته لكنه في الحقيقة لم يكن كذلك اذ كانت ذاكرته مدججة بشخوص هامة أثرت فيه من ذلك ان حبيبته شوذب (ابنة معلمه) كانت تملأ حياته بما تبث فيه من ذكريات منعشة تصاحبها مشاعر الحب والشوق والحنين والقلق وعندما لا يلتقيها يبتكرها، ويرسمها على الجدار ليتحدث اليها، ويراقصها بما يؤكد أن الإنسان لا يكون أبدا في قطيعة مع ماضيه بل إن هذا الإنسان لا يستطيع أن يحدد إنّيته إلا بوجود الآخر بما يمثله من غيرية، بمعنى أن الآخر يبدو شرطا أساسيا ليحدد الإنسان أناه وإن لم يكن الراوي (جوذر ) دائما في حالة تجانس مع الآخر فقد كانت تجمعه في الغالب علاقات متوترة مع شخصية ذي الساق ووهمية مع إحدى جواري القصر. ثم إن الآخر كان يهيمن على أحداث الرواية بحضوره الطاغي من خلال سلطة السيدة الحرة مثلا.. وضمن هذه العلاقات المتشابكة والمرتبكة كان الراوي يستمد معنى لوجوده ضمن تفاعلات مختلفة تهيمن عليها مشاعر الريبة والحذر تجاه حارسه ذي الساق والتي تطورت بشكل تصاعدي عبر أحداث الرواية من عدائية مفرطة إلى صداقة ممكنة، ومشاعر الشوق والهيام تجاه حبيبته شوذب والتي انتقلت بالعاشق من تجربة حب حقيقية إلى علاقة وهمية مضنية ومشاعر الانبهار تجاه الملكة أو السيدة الحرة مع ما يتخلل ذلك من تجاذبات انفعالية مختلفة تشتد وترتخي حسب تواتر الأحداث التي يغلب عليها الفتن والمكائد الخ.. هذه المشاعر المختلفة والمتناقضة أضفت معاني عديدة على شخصية جوذر وجعلت وحدته تعجّ بالأحداث والتفاصيل اليومية حتى أن القارئ يكاد ينسى هذه العزلة التي يعيشها.

التفاعلات المختلفة للذات التي تسعى للبحث عن ذاتها ضمن رحلة حياة شاقة فيها الأمل واليأس والحب والكره والصداقة والعداء والحقيقة والوهم الخ.. تعبّر عن يقظة هذه الذات العربية التي ترغب في التصالح مع واقعها وتحقيق التكامل بين الذكر والأنثى (جوذر وشوذب)، والتعايش الممكن بين الأديان (الإسلام واليهودية، والسُنّة والشيعة) والتصالح مع التاريخ بإعادة كتابته أو بالأصح تصحيح قراءته بعيدا عن الصنمية والتقديس.. كل هذا يؤكد أن الذات العربية قد آن لها أن تستيقظ وتنهض ولعل جعل الغربي الشخصية الرئيسية متعلمة تتقن الكتابة إنما هو إيمان بالمعرفة في حد ذاتها، ولعل موهبة الخط الجميل ومهارة التزويق الفني لدى هذه الشخصية قد تكون إحالة على أن المعرفة تكتمل بالفن ويحققان معا معادلة التوازن لدى الفرد والمجتمع.


مكانة المرأة

عندما أنهيت قراءة رواية «مسامرة الموتى» عدتُ إلى محرّك البحث جوجل أبحث عن معطيات حول الملكة أروى واكتشفت قصوري المعرفي بتاريخ اليمن فقد اكتشفت انه مرّ بتاريخ هذه البلاد شخصيات هامة ومؤثرة وتفاجأت عندما علمتُ أن من بين هذه الشخصيات نساءً فاعلاتٍ كُنّ صاحبات سلطة ونفوذ واستطعن الفعل في التاريخ وتغيير مجراه، وهذا صدقا يعني لي الكثير كامرأة ومن هنا ربما تأتي أهمية أن يكتب المبدع عن تاريخ بلاده ويلفت الانتباه إلى شخصيات هامة مرت به فأنا لم أعلم بالقضية الكردية الا عندما قرأت لشاعر الكرد العظيم شيركو بيكاس ولم أسمع بقضية البدون في الخليج إلا عندما قرأت رواية «الصهد» للكويتي ناصر الظفيري ولم أسمع بالملكة أروى في اليمن إلا عندما قرأت «مسامرة الموتى» للغربي عمران.. وهو ما يؤكد أن تأثير الكاتب أقوى من تعتيم السياسي، ولعل خصوصية الرواية الأخيرة للغربي أنه انتصر للمرأة في المطلق فقد كانت في الرواية مركز الثقل بالتعبير الفيزيائي بما هي ملكة صاحبة السلطة العليا وهي الجارية التي تتحكم في كل التفاصيل وهي العاشقة الملهمة لحبيبها وهي الفكرة التي يخترعها المحب ليعيش.. وفي كل ذلك كانت المرأة حاضرة بقوة تحرّك الأحداث فتسرع بها مرة وتتباطأ بها أحيانا تتحكّم في لعبة السرد باقتدار وتولّد كل مشاعر الغضب والخيانة والفرح والغيرة والأمل والحيرة والشك حتى أني أشعر أن الروائي نفسه كان تحت هيمنة المرأة ولم يكن يقدر أن يفعل شيئا ليحد من حضورها الطاغي، فالمرأة هي التي تصل إلى قمة المجد وتتربّع على أعلى سلطة في المملكة وهي التي تتراجع إلى أسفل درك وتعيش الخيبة والانكسار ثم المرأة هي التي تعود مرة أخرى إلى التحكّم في البلاد وكتابة التاريخ كل ذلك يقطع مع الوعي التقليدي السائد ويكشف عن نفوذ اكتسبته في الواقع عن جدارة.. كما أن كل الانفعالات التي تحرك الأحداث في الرواية كان مصدرها المرأة من حب وحيرة وحنين وقلق ودهشة وفضول وغضب الخ... الرجل لم يكن سوى كائن منفعل خاضع لهيمنة المرأة وحارس مملكتها وكاتب لتاريخها وعاشق لجمالها ومفتون بسحرها والغربي نفسه يبدو أنه كتب ذلك بتأثير شديد من المرأة نفسها...

بهذا المعنى نجد الغربي يهمل الصورة النمطية للمرأة كما نجدها في المجتمع وكما كرّستها بعض الأدبيات العربية الشهيرة وتقديمها في صورة المرأة الضحية لينتصر للمرأة القوية والفاعلة والإيجابية بعيدا عن الرومنسية المرضية وقريبا من الشخصية النموذجية التي اعتاد أن ينفرد بها الرجل وإذا كان نزار قباني يقول أنه في هذا العصر العربي المتخلّف يحتاج شاعر مثله أن يستعير من المرأة أساورها وحليّها ليتحدث باسمها فان الغربي عمران في هذه الرواية يحتاج أن يعود إلى الماضي ويجلب من التاريخ الشخصية النموذجية للمرأة التي ما تزال تحلم بها المرأة العربية.. ولعله أراد بذلك أن يقول أنه ثمة حقبات في تاريخنا العربي أكثر «حداثة» من العصر الذي نعيشه وانه ثمة شخصيات تاريخية نحتاج أن نأتي بها على رُكح مسرح الحاضر لتؤدي أدوارنا في الحياة لنقول من خلالها ما نفكر به.. لذلك تأتي هذه الرواية لتنتصر للمرأة العربية ففي الوقت الذي نجد المرأة في الولايات المتحدة الأمريكية تنافس على منصب الرئاسة ونجدها تحكم بشكل مباشر وفاعل في ألمانيا إحدى أقوى الدول في العالم نجد المرأة في عصرنا تعيش مهانة ومذلة خصوصا بسيطرة الفكر الديني المتطرف الذي سمح لنفسه من خلال داعش بأن يعامل المرأة الايزيدية كغنيمة حرب ويقبل ان يأخذها في القرن الواحد والعشرين إلى أسواق النخاسة في الموصل والرقة لتباع وتشترى بالدولار الأمريكي. 


ما يشبه الخاتمة..

كتب الغربي روايته «مسامرة الموتى» وفق سرد خطي متواتر احترم فيه سير الأحداث التاريخية ولم تظهر تقنية الفلاش باك إلا لماما للإشارة إلى حدث عاشته الشخصية الرئيسية يضيء من خلالها جوانب من شخصيته. 

اختار الغربي تعدّد الأصوات السردية في روايته من خلال ساردين يتناوبان على سرد الأحداث الأول هو جوذر السارد الشاهد الذي يتابع الأحداث في صيغة المخاطب (أنا) ويبدو في شكل حاجز بين عالم الرواية والقراء لا يسمح لهم بالاقتراب من قلعة الملكة ودهاليز القصر إلا متى أراد، لكن هذا السارد الشاهد لا يعلم كل شيء يكتفي بأن ينقل ما يدور حوله، ولذلك نجد الروائي الغربي يسنده بشخصية أخرى رئيسية هي شوذب الجارية التي يتبادل معها الرسائل وتساعده على السرد لذلك تكتب له معتمدة بدورها على صيغة المخاطب (أنا) وتكشف عما يقع داخل القصر وما يحدث فيه من أسرار ومكائد وفتن ومناورات..

المفارقة السردية تتمثل في أن من خلال هاتين الشخصيتين الساردتين نتحصل على رؤيتين للأحداث رؤية داخلية تتمظهر مع جوذر الذي يقدم نفسه بصفته شاهدا على الأحداث من خلال سيرته الذاتية 

ومن خلال هذه الرؤية نجده اهتم بالاحداث التي تدور حوله وبالعوالم الخارجية التي تحيط به من منطلق ارتباطها بحياته، أما مع شخصية شوذب فإننا نتعرف على رؤى متعددة تكشف الصراعات المحتدمة في كواليس القصر واشتغل الغربي على عناصر القوة والضعف التي تتبادل بين الشخصيات وتصنع الأحداث المتلاحقة .

اختار الغربي في روايته صيغة المضارع ليكتب روايته والمضارع يدل على الزمن الحاضر (أو المستقبل)، في هذه الرواية يبدو الفعل في صيغة المضارع ربما للتأكيد على وقوع الحدث وهو ما يتناسب للإيحاء بالبعد التاريخي للأحداث. 

كما ألاحظ أن الغربي في هذه الرواية قد خفّف قليلا من الوصف الذي تميزت به رواياته السابقة فقد اعتمد الوصف لتقديم العالم الحسي للرواية دون التورّط في وصف التفاصيل الصغيرة التي قد تنتهي به إلى المبالغة والتي قد تثقل كاهل السرد وربما تشيع الملل لدى القارئ لذلك فقد ورد الوصف في «مسامرة الموتى» بشكل وظيفي يسمح بوصول الصورة والشعور والفكرة لدى القارئ دون مبالغة وإسهاب ..

اعتمد الغربي في هذه الرواية على تقنية التراسل بين الشخصيتين رئيسيتين وان كان العديد من الروائيين قد اعتمدوا على الرسائل مثل أمير تاج السر الذي اختار في روايته الأخيرة وعنوانها 366 (الصادرة سنة 2013) على رسالة مطوّلة يكتبها البطل إلى حبيبته فان الغربي اختار أن يتبادل البطل الرسائل مع حبيبته وإن كانت صيغة رسائل البطل تبدو بلغة متينة وزخرفة شعرية مستحبّة على اعتبار أنه كاتب رسائل معروف بحسن الخط وجمال اللفظ فإن رسائل الحبيبة وهي جارية عادية تبدو بنفس الأسلوب ولا يلاحظ القارئ أي فرق في كتابة الرسائل بين كاتب «محترف» وبين واحدة من نساء القصر في حين أرى أن كتابة الرسائل يجب أن تختلف في أسلوبها ولغتها تبعا لتركيبة كل شخصية وتراعي خصوصيتها الاجتماعية . 

من خلال رواية «مسامرة الموتى» يضيف الغربي الى المدونة العربية رواية مميزة وناجحة استطاعت أن تحوز على جائزة كتارا في الرواية المخطوطة ثم سحبت من الغربي فقط لأنه نشر الرواية قبل الاعلان عن نتائج المسابقة.

 

حول الموقع

إل مقه - نادي القصة اليمني