الأعداد السابقة

المخطوطة الضائعة

عبدالوهاب عبدالله سِنّين

حزم حقائبه، ودَّع أقاربه، ومضى عازماً ليبحث عن مخطوطة عمرها عشرات السنين، تنقل من بلدٍ إلى بلد، داخَلَهُ اليأس من الوصول إليها، لكن رائحة كاتبتها كأنه عطر يجذبه، كانت لديه صديقة تشدُّ من أزره، وظل يبحث هنا وهناك، ذهبا إلى فرنسا، ولكن دون جدوى قررا العودة إلى القاهرة، موعد الإقلاع اقترب، فجأة رن تلفون صديقته روز كان ذلك سامي، آه أهذا أنت ولكن أنا والباحث على أهبة الاستعداد للسفر، أقنعهما بخبر المخطوطة، وكان لابد من تأجيل السفر، وفي الصباح الباكر تناولا الفطور بصحبة سامي في مطعم لايروتوند، هناك في صدر المطعم الفرنسي تلفاز معلق أعلن المذيع سقوط رحلة الطائرة المصرية رقم 804 وكانت تحمل 59 راكباً، نجا منهم شخصان، كانا الباحث وصديقته روز، وخيم على المطعم خبرٌ مؤسفٌ، زفر الباحث الآلام، وامتقع لونه، وسر الكثير لنجاته وروز، وبعد أيام غادرا إلى القاهرة، وحصلا على تلك المخطوطة، احتضنها الباحث وكأنه التقى بفقيدته التي طال بحثه عنها، ودعته روز شكر جهدها المبذول بكل حب، وعاد إلى بلاده والفرح يملأُ نفسه، وأقبل الليل فارداً رداءه، كان الشتاء قارساً لبس معطفه النيلي وغادر غرفة نومه متجهاً إلى مكتبه تناول قلمه الصغير، جلس في كرسيه الدوار ينظر إلى كومة من الأوراق المبعثرة في كيس من البلاستيك، التي حصل عليها بعد بحث شاق علم أنها في حوزة امرأة عجوز، دفع مبلغاً من المال لتلك المرأة ثمنا لها،  كانت تلك الكومة مطلوبة للإبادة، ولكن القدير شاء أن يهيئ  من يحرسها مدة تزيد على السبعين عاماً، أخرجها من كيسها البلاستيكي السميك، لمسها لأول مرة بعد غياب طال أمده، لم تكن تلك الأوراق ناعمة، بل كانت متجعدة، وكأنها غضون بارزة في وجه رجل عجوز بلغ من العمر عتيا، هاله منظر تلك الكومة الذابلة، رتبها ورقة ورقة، آلمته مرارة حروفها استنطق سطورها القادمة من خبايا النسيان، ولكنه لم ير حبراً كهذا، بل كانت دموع كاتبتها تئن بين يديه، قلب صفحتها الأولى وجد عبارة تقول: «أخيراً دونتكِ يا وجعي» غاص في تلك الكومة يسمع شكواها سمعها تردد  «أراني في وطني تلك الغريبة الطريدة التي لا وطن لها» قام بترميم أشلاءها المبعثرة مسح بيديه الحانيتين دموعها النازفة جروح الأسى، ثم استل يراعه وسكب تلك الأوجاع في أوراقه البيضاء الحديثة، عكف ردحاً من الزمان وهو يصقل حروفها الباكية، عجبت منه ومن جلَده وطول صبره، مددت بصري إلى تلك الكومة خفية شعرت بوهج عشرات السنين يلفح وجهي، عدت أدراجي أنظر ما سينتهي إليه، تهللت أسارير وجهه حين سمع صوتها يقترب رويداً رويداً ، ومن بين تلك الركام البالية قالت: «أتمنى أنْ يأتي بَعدي من ينصفني» سمعته يقول: هأنذا أتيتُ بكِ من عالمك المتقادم إلى عالمنا اليوم، لقد أبكيتني بحرقة، عباراتك تسكن في سراديب أعماقي، وبعد لأيٍ انتهى من جعل تلك الكومة ترتدي ثوباً يليق بإيزيس، ذهب مسروراً  إلى المطبعة، التي أذهبت تلك التجاعيد، وها هي اليوم تنادي أنا إيزيس كوبيا أنا آلام ثلاثمئة ليلة وليلة في جحيم العصفورية. 

حول الموقع

إل مقه - نادي القصة اليمني