الأعداد السابقة

اليمن الحضن الدافئ والصورة المشرقة في الذاكرة

سمير مجيد البياتي

كيف لي يا صديقي أن أعدّ هذه الفقرة وأن أكتب ما بين (800 و1000) كلمة؟ وكيف لي أن أختصر ما يقارب أربعة عشر عامًا من العِشرة، وأنا كل يوم أكتشف وأتعرف على وجوه جديدة وأحداث جميلة؟ كيف أصف ومن أين أبدأ؟ إنها رحلة عمر طويلة وجميلة عشتها ما بين إخوتي وأصدقائي وأحبتي من المثقفين والمبدعين الأدباء والشعراء والفنانين والطلبة.. نعم طلبتي الذين درسوا في مرسمي (مرسم ألوان).. عن ماذا أتكلم؟ هل أبدأ بمجلس الثلاثاء للدكتور عبد العزيز المقالح في مضيفه بمنزله؟ أم بنادي القصة آل - مقه حيث نلتقي أسبوعياً لنتحاور شعرًا وأدبًا وفنًا. وحتى في بعض الأمسيات كان لصوت الغناء وآلة العود والعزف الجميل من قبل بعض المبدعين أحلى صدى. كيف لي أن أنسى حواراتنا الجميلة في مرسمي الخاص مع ثلة من المبدعين وبزياراتهم الجميلة؟ وقد كان لبعضهم حصة الأسد في ذلك عندما كان يشرفني الدكتور إبراهيم أبو طالب، ومحمد الغربي عمران، وزيد الفقيه، ثابت القوطاري وانتصار السري، أميرة الكولي وحسن المرتضى، وحاتم علي.. والكثير الكثير من الأصدقاء الأنقياء الأوفياء.
إذن لنطوِ صفحات الأيام ونأخذ بعض شذراتها في اليمن السعيد.
أولاً وبصراحة شديدة لم يكن اليمن ضمن خارطة هجرتي عندما كنت في الأردن، حينما فكرت برحلة الهروب من واقعنا العراقي الأليم للأسف.. غير أن في بعض الأحيان تتغير بوصلة حياتك وترحالك دون أن يكون لك فيها خيار. ومع ذلك تسوقك الأقدار إليها..
ومن طريف حديثنا مع أحد الأصدقاء في الأردن وأنا فرح سعيد أبلغته بحصولي على تأشيرة إلى كوبا ومن فرحتي بذلك دفعت قيمة التأشيرتين لصديقين آخرين بقيمة 300 دولار وقد كنا نخطط وبطريقة بوليسية لندخل إليها وكيف يدفع بنا المهربون في عرض البحر سباحة ومنها ندخل إلى أمريكا.. وكان معنا صديق يمكنه أن يحضر لنا فتاتين نتزوجهما صوريا فندخل معهما إلى أرض الأحلام الوردية.. وأنا منتش بالدردشة مع صديقي سألني هل تعرف السباحة؟ سؤال صادم تذكرت مرة وأنا في مسبح الكاظمية في بغداد غرقت وأمام الكل لولا أن تمّ إنقاذي من قبل مسؤول المسبح.. فقال لي أنصحك بالذهاب إلى اليمن.. قلت له: «ماذا؟!.. يا أخي؟ أحد الأصدقاء قال لي بأنه شاهد قافلة أبا سفيان مرّت من هناك» وأنا أقولها له مازحاً..
المهمّ أنّي طرت إلى صنعاء..
أناس في غاية البساطة وفي غاية الفقر.. بعضهم كانوا يسيرون حفاة الأقدام بملابس مهلهلة.. يمضغون «القات» ويستفرغون على قارعة الطريق.. وأنا كنت أحاول أن أمسك نفسي بأن لا أستفرغ من بعده.. تلك المناظر شاهدتها بأمّ عيني وبقيت لمدة شهر وأنا أحاول أن أغادرها.. ولم أحصل على عمل. وكان الذين استضافوني في شقتهم من أقارب زوجتي في العراق.. وكانت محاولاتهم عديدة لمساعدتي.. وأخيراً تمّ حصولي على عمل في مؤسسة أهلية، تعنى بالأعلام والتسويق مديرتها آنسة متسلطة، وغير ملتزمة بدفع المرتب كما هو معروف نهاية كل شهر.
المحاولة الثانية هو العمل في التلفزيون اليمني جاءت بمحاولة من قبل الأستاذ والشاعر (إسماعيل الوريث) للعمل هناك وقد قدم الطلب باسمه راجياً تعييني في هذا القطاع في قسم الديكور وقد كانت التهميشات والإستفسارات والردود والأجوبة والأسئلة من واحد لآخر بشكل طولي وأفقي حتى ضاع مضمون الطلب وصيغته في نفس الورقة المسكينة.
وقد تعرفت على ثلة من الطيبين في قسم الديكور مع المسؤول الفني (أبو طالب..) ونجتمع من خمسة إلى ستة أشخاص في وقت الغداء وتعرفت على (السلتة). و(الفحسة) و(العصيدة)، والكل يجتمع عند ذلك الصحن الفخاري وهو يغلي.. المهم أن تصل يدك إلى ذلك الصحن اللاهب ومع رأس فحل البصل بعد أن يضرب بيد قاسية حتى يتفتت ونأكل (الكدم) العسكري أو خبز (الملوج) الساخن. الله عليه كم هو شهي وطيب ! بالمناسبة كنت أشتري كل أسبوع من سوق الخضار عددا من خبز (الملوج) من عجوز. وفي أحد الأيام غابت المرأة ولم تحضر، فجلست فتاة تبيع الملوج في نفس المكان وفي الأسبوع الثالث ـ أو الرابع حضرت العجوز والفتاة معا.. وأنا حرت؟ ممن أشتري. فذهبت إلى الفتاة. وإذا بالعجوز تنتفض وتصيح: «هذا الزبون عميلي».. ضحكت وقلت لها: نعم نحن عملاء..ههههه.
ومرت الأيام وإذا بي أتعرف على صديق عراقي قدّم لي عرضاً بالعمل كمهندس ديكور في فندق (رمادة حده).. ومن هنا استقرت الأمور وبدأت أتكيف مع الأشخاص وكيف أفهمهم.. وعندما كنت أتحدث معهم يعرفوني بأني عراقي ويقول يا مرحبا أستاد (عراكي) ـ (عراقي)، ويبتسمون لي بكل فرح وود وكانوا لطفاء جدًا بتعاملهم معي أو مع أي جنسية عربية، وبدأت الأشهر تمضي بهدوء وسكينة وقد نسيت أني كنت راغبا بالسفر عنهم.. والحمد لله لم أتذكر ذلك الوعد إلا بعد أربعة عشر عاماً.
المهم.. تعرفت على كثير من الأصدقاء والصديقات في العمل وفي حقل التدريس في مدرسة (سام اليمن الدولية).. حين دعانا شيخها إلى منزله العامر.. وكان الشيخ ذا قامة طويلة وكرشه كبيرة. استضافنا في المقيل الطويل وهو يرمي بكراماته على الحضور برزم معدة من القات.. وأنا للأسف لم أنسجم مع هذه النبتة ليس لي معها أي علاقة أو ود. فعندما رمى الشيخ ربطة القات صوبي قلت له: «عفوًا يا شيــ...» ولم أكمل جملتي حتى ضربني زميلي في المدرسة بظهر يده على خاصرتي.. وهو يقول: عيب خذها ولا تردّ الشيخ..» طبعًا هو الذي استولى على الرزمة بعدها..
وصفحة أخرى..
عندما تعرفت على الأستاذة نجاة باحكيم في أحد الأنشطة الثقافية والفنية دعتني للحضور والتعرف إلى نادي القصة آل- مقه كل يوم أربعاء الساعة الرابعة مساءً، ذهبت لأتعرف على تلك العقول الأدبية والنخب الثقافية المتنورة ما بين الشعر والقصة وكافة صنوف الأدب.. وهم يجتمعون حول طاولتين ويترأسها القامة الروائية المتميز محمد الغربي عمران بلغته المميزة وأسلوبه العذب وهو يرحب بالجميع بكلامه المعسول الشيق ويتراص على الجانبين صفان من المثقفين. وأحب أن اذكرهم بكل حب وتقدير: الدكتور إبراهيم أبو طالب، زيد الفقيه، محمد محسن الحوثي، انتصار السري، ثابت القوطاري وعلي القوطاري، محمد حنش، نجاة باحكيم، حسن المرتضى وأحيانًا أميرة الكولي، ومحمد عبد القدوس،والدكتور أحمد قاسم العريقي، ونجيب ناصر الكميم، سامي الشاطبي، بلقيس الكبيسي، منير طلال، يحيى الحمادي، ليلى إلهان، علوان الجيلاني، د. سيرين حسن، سهير السمان، نبيلة الشيخ، زين العابدين الضبيبي، عبد الله الارياني، وخالد الجنيد..والكاتب السوداني الحسن محمد سعيد.. وآخرون بعضهم أتذكره كصورة ويغيب عنِي اسمه ولقبه.. فعذرا لهم..
ومن أجمل الصفحات هي حضوري الأسبوعي في الملتقى الأدبي في منزل الدكتور عبد العزيز المقالح وهو يلتقي بكافة المبدعين ومن الأجيال الثلاثة وفي هذا اليوم الكل يكون في راحته في جو عائلي رحب (يخزنون القات) ويلقون الشعر وهو يوماً للحوار المفتوح بالمشاركة بالأدب والفن. ومن أعز المواقف - ويخجلني كثيرًا - عندما يحمل الدكتور صينة الشاي ويقدمها لي لأنه يعرف أنى لا أخزن القات، فيكرمني بالشاي، وقد أبلغته بأنه إن فعلها ثانية فلن أحضر مرة أخرى.. ولكنه فعلها مرة ومرات.. كم هو قامة كبيرة وكم هو متواضع ونبيل ونقي ومثقف من طراز رفيع.. عبد العزيز المقالح. أكرمني بتقديم ديواني الشعري الأول (عودة جلجامش المنتظر) عام 2012، وديواني الثاني (ومضات متلألئة) عام 2015. رجل كبير وقامة يمينة عربية يشار لها بالبنان..
والأسماء المضيئة كثيرة في اليمن ومنها الدكتور إبراهيم أبو طالب، وهو موضوع يحتاج إلى العشرات من الصفحات للحديث عنه وعلى تعاونه مع الكثير من المبدعين.. ولا أنسى يوم جئت إليه وأنا أقول له: عذرًا دكتور تطفلت عليكم وكتبت ديوان شعر.. فنظر إلي وضحكنا.. وسلمته الديوان.

حول الموقع

إل مقه - نادي القصة اليمني